في قلب غزة، لا تقتصر الجراح على الأجساد، بل تمتد لتلامس الأرواح. أطفالٌ بريئون لم يعرفوا في حياتهم سوى الآلام، أصبحوا اليوم ضحايا لقصفٍ لا يميّز بين صغير وكبير، بين رجل أو امرأة. مع كل لحظة تمرّ، يتساقط المزيد من المنازل، وتُمحى الملامح، وتُسلب الطفولة في غزة.
المعاناة اليومية:
يعيش الأطفال في غزة واقعًا لا يمكن تخيّله؛ فبينما يسعى العالم كلّه للسلام، يظلّ هؤلاء الصغار يواجهون موتًا قاسيًا ودمارًا شاملًا. حروبٌ متلاحقة، وقصفٌ مستمر، وانفجاراتٌ تمزّق أحلامهم قبل أجسادهم. في كل مرّة يحاولون اللعب أو الابتسامة، يُسحب منهم الأمل ليحلّ مكانه غبار الركام ودماء القتلى.
في غزة، لا يوجد مكان آمن. ففي هذا القطاع المحاصر، أصبح صوت الطائرات الحربية هو الرفيق الدائم لأطفال لا يتجاوزون السادسة أو السابعة من أعمارهم. والأطفال الذين كانوا بالأمس يبنون قلعة رملية على شاطئ البحر، أصبحوا اليوم يبنون قلوبًا محطّمة تحت أنقاض بيوتهم المدمرة.
تدمير كامل ونزوح أهل غزة
تدمير كامل ونزوح أهل غزة
**”غَزَّةُ، مَنْ أَطْفَأَ شَمْعَتَكِ؟
مَنْ فَجَّرَ قُدُمَيْكِ؟
مَنْ كَسَرَ يَدَيْكِ؟
أُعِيدُوا بَسْمَتَكِ أَيَّتُهَا الرَّاحِلَةُ”**
تلك الأبيات التي أوردها تميم البرغوثي، تحمل بين سطورها الحزن العميق والصور المؤلمة لتدمير غزة، لكن أيضًا فيها إشارة إلى الصمود الذي لا يُقهر.
أثر القصف على الأطفال:
مأساة غزة ليست في الدمار المادي فقط، بل في الخراب الذي أصاب الأرواح البريئة. الأطفال الذين فقدوا أسرهم ورفاقهم، يرون يوميًا موتهم البطيء، حيث لا أمل في المستقبل، ولا سبيل للنجاة من هذا العذاب الذي يتجدّد مع كل ساعة. يتنقلون بين الملجأ والملجأ، ولا يفهمون لماذا عليهم أن يعيشوا في مثل هذا الجحيم، أو لماذا تختفي لعبتهم المفضّلة بين الأنقاض.
الأطباء يحذّرون من أنّ التأثير النفسي على الأطفال في غزة سيكون طويل الأمد. فقد أظهرت الدراسات أن أغلب هؤلاء الأطفال يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، مثل القلق المستمر، والصدمات النفسية العميقة التي تؤثر على حياتهم اليومية وتقلل من فرصهم في حياة طبيعية.
صوت الصغار في وجه الموت:
لكن وسط كل هذه المآسي، تبقى براءة الأطفال هي الأكثر تأثّرًا. قد لا يفهم هؤلاء الصغار السياسة أو الحروب أو أسباب العنف، لكنهم يواجهون الحرب على طفولتهم بكل ما لديهم من قوة. في عيونهم مزيج من الألم والبراءة، ينادون بلغة غير مرئية، في محاولة منهم لإيقاف هذا الكابوس الذي لا ينتهي.
أحد الأطفال الذين نجا من قصف عنيف، قال وهو يحمل في عينيه الحزن: “كنتُ أريد أن أكون طيارًا، لكن الآن أخاف من الطائرات”. هذا الطفل، الذي يفترض أن يحلم ويطمح مثل غيره من الأطفال في أنحاء العالم، أصبح اليوم يخاف من السماء التي كانت يومًا مصدرًا للراحة.
أطفال غزة في مواجهة المستقبل المجهول:
المستقبل بالنسبة لأطفال غزة يبدو أكثر ضبابية. الدمار في كل زاوية، الظروف الصعبة في كل شارع، والمستقبل المجهول يلوح في الأفق. ولكن رغم كل شيء، هناك أمل صغير، فالأطفال ما زالوا يبتسمون، حتى وإن كانت ابتساماتهم مليئة بالدموع. ما زالوا يحلمون بمستقبل أفضل، يرفضون أن تكون حياتهم مجرّد أرقام في تقرير الأمم المتحدة عن ضحايا الحروب.
الدور الإنساني المطلوب:
تتطلب معاناة الأطفال في غزة تحركًا إنسانيًا عاجلاً. العالم يجب أن ينظر إلى هؤلاء الأطفال كما لو كانوا أطفالًا في أي مكان آخر، لأنهم يستحقون حياة أفضل. من الضروري أن يُوقف العنف، وأن يُسمح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى غزة، وألا يُحرم هؤلاء الأطفال من حقهم في الحياة.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة مدمّرة، بل هي شاهد حيّ على قسوة الحروب وتداعياتها على أطفال لا ذنب لهم في هذا الصراع. من خلال هذه المعاناة، يظهر لنا العالم حقيقة واحدة: لا يمكن لأي شيء أن يُبرّر تدمير الطفولة. يبقى أملنا أن يُسمع صوت أطفال غزة في جميع أنحاء العالم، وأن نعمل سويًا على مستقبل أفضل لهم.
السكوت العربي مقابل التضامن العالمي:
في حين يواصل الشعب الفلسطيني معاناته في غزة تحت ويلات القصف والدمار، يبقى الصمت العربي مؤلمًا ومربكًا. لقد أصبح العالم العربي، في العديد من الأحيان، غارقًا في الصمت، وكأن عذابات الأطفال، والدماء التي تروي شوارع غزة، لا تعني له شيئًا. بينما يشهد العالم الخارجي، وخاصة الدول الغربية، حالة من التضامن الواسع مع الفلسطينيين، حيث تنتشر الاحتجاجات، وتُرفع الأعلام الفلسطينية في شوارع العديد من العواصم العالمية.
تظاهرات مليونية تجتاح العالم تضامناً مع غزة
تظاهرات مليونية تجتاح العالم تضامناً مع غزة
في نيويورك، باريس، لندن، وعواصم أخرى، تملأ التظاهرات الحاشدة الشوارع تضامنًا مع غزة. وتلتقط كاميرات وسائل الإعلام الصور المؤلمة للأطفال الذين يموتون تحت الأنقاض، بينما المؤسسات الدولية تتخذ مواقف مناهضة للعدوان الإسرائيلي. لكن في المقابل، يبدو أن الشعوب العربية التي تعيش تحت نفس السماء، لم تجد لها صوتًا حقيقيًا في الشارع أو في السياسات للتأثير في وقف هذه المجازر.
الأنظمة العربية تعيش حالة من الصمت أو التردّد، بينما يبقى المواطن العربي في العديد من البلدان في انتظار التغيير. التظاهر في الشوارع العربية نادرٌ مقارنةً بما يحدث في العواصم الغربية. فهل أصبح الصوت العربي ضعيفًا أمام الضغوط السياسية؟ وهل أصبح الشارع العربي مشغولًا بأزمات أخرى تجعله يغفل عن أوجاع إخوانه في غزة؟
تضامن عالمي على الواجهة، وصمت عربي في الخلفية. يبدو أن هذه الازدواجية تبرز جليّة في وقت حسّاس من تاريخ العالم العربي. ربما لا يتعلّق الأمر فقط بعدم القدرة على التفاعل، بل قد يكون له أبعاد سياسية، اجتماعية، وربما اقتصادية، إذ تتشابك المصالح بين الدول الكبرى ودول المنطقة في مواقفها من القضية الفلسطينية.