مطالعة متأنية في لقاء و إعلان طرابلس…كتب غسّان حلواني

في اللقاء الذي أقامه الرئيس نجيب ميقاتي في دارته في طرابلس، وتناول من خلاله التداعيات الناجمة عن أحداث سوريا على لبنان، خاصةً في المناطق الشمالية التي تعاني من تدفق النازحين، وتدهور الأوضاع الأمنية. أطلق في الحقيقة إنذارا ً باللون الأصفر، لتصحيح المسار الوطنيي. قد سعى ميقاتي و نجح في إعادة رسم ملامح الوحدة الوطنية، وتوحيد المواقف بين قوى سياسية واجتماعية مختلفة في لبنان، مما يُمكِّن الدولة من مواجهة الانقسامات الداخلية التي قد تُستغل من قبل جهات خارجية.
وقد أعاد اللقاء ترتيب الأولويات الأمنية والإدارية، مؤكدّاً على أهمية ضبط الفلتان الأمنية وتفعيل اللامركزية الإدارية، وهي خطوات تهدف إلى نقل السلطة لمستويات محلية أكثر فاعلية، واستغلال المقومات الاقتصادية في طرابلس، وهو ما يعكس رؤية إصلاحية تستجيب لتحديات الواقع.
وفي رد الفعل على أزمة النازحين السوريين، فإن اللقاء جاء لتوضيح موقف الدولة من فكرة اللجوء الدائم، والسعي نحو إعادة النازحين إلى وطنهم بعد استقرار الأوضاع في سوريا، ما يساعد على تخفيف العبء على الدولة والموارد الوطنية.
وقد أرسل ميقاتي -وإن كان خارج الحكم- من خلال اللقاء الى المجتمع الدولي إشارات لها علاقة بتعزيز مصداقية لبنان الدولية. فاللقاء جمع بين كبار قيادات الدولة ورجال الدين والشخصيات البارزة، مرسلا ً رسالة للعالم بأن لبنان يقف موحدًا في مواجهة الأزمات، وأنه يتبنى سياسات إصلاحية، تهدف لاستعادة الثقة الدولية في مؤسساته، وهذا توجه يتماشى مع أفكار إميل دوركهايم حول أهمية التكافل الاجتماعي في مواجهة الفوضى والانقسام.

في السياسية، وإذا كان فعلا ً النيّة هي النجاح اللبناني، ينبغي توظيف نجاح هذا اللقاء في خدمة الحكومة اللبنانية الجديدة. وهذا التوظيف من خلال توحيد الصفوف الداخلية، من شأنه أن يعزز من شرعية الحكومة الحالية، ويقوي الموقف السياسي الرسمي العام في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
وأيضاً في السياسة، قدمت كلمة الرئيس نجيب ميقاتي رسالة سياسية تسعى إلى استعادة الثقة الوطنية والتأكيد على ضرورة الرد الحازم على التداعيات السورية. إن الدعوة الى تطبيق اللامركزية الإدارية لتعزيز الكفاءة المحلية كانت دعوة موفقة فمن وجهة نظر علماء السياسة مثل ماكس فيبر، فإن الإشارة إلى إعادة توزيع السلطات وإحياء مجالس الإدارة تحمل قيمة إيجابية، إذ تُظهر وعيًا بحاجات المناطق المهمشة، القابلة للإشتعال عند الأزمات.
في الإدارة والأمن، خرج هذا اللقاء بتقديم رؤى إصلاحية تستهدف إعادة هيكلة النظام الإداري والأمني، ما يُمكّن من تحسين الخدمات وتخفيف الضغوط على المؤسسات الحكومية.
كما نجح هذا اللقاء، بإظهار القدرة -إذا ما توفرت الإرادة-على التعامل مع الأزمات عبر الحوار والتنسيق داخليا، مما يُعزز من صورة لبنان كدولة مستقلة ذات موقف داخلي قوي في الساحة الإقليمية.
من المفيد جدّا ً ان تتلقف السلطة التنفيذية نجاح هذا اللقاء ، إذ يُعتبر خطوة استراتيجية تُتيح لتناغم الرؤيا بين أعضاء نادي رؤساء الحكومات السابقين، و رؤية رئيس الحكومة الحالي في إعادة هيكلة السياسات الوطنية وتعزيز الوحدة الداخلية، وهي عناصر ضرورية لتحقيق استقرار طويل الأمد ومواجهة التحديات التي يفرضها الواقع الإقليمي الراهن. و على رئيس الحكومة نواف سلام أن يتعامل مع أعضاء نادي رؤساء الحكومة من منطلق إعتبارهم جميعا ً فريق دعم لا فريق خصم.
من وجهة نظر رجل خرج من السلطة، و بالرغم من الربط بين الأزمة السورية والحاجة للإصلاح الإداري، لم يعرض الرئيس ميقاتي رؤية مفصلّة للآليات والسياسات التي ستترجم هذه الأفكار إلى واقع ملموس. و لعل هذا يأتي من باب الأدب السياسي مع رأس الحكومة الجديدة، بعدم التلميح الى خطوات إجرائية قد تأخذ عليه من باب التدخل في شؤون الحكومة. و للأمانة ، هذه نقطة تحسب للرئيس ميقاتي لا عليه، و لو أراد الناقدون سماع رؤية تفصيلية.
لا يلام الرئيس ميقاتي في الاعتماد على الحجة الرمزية عندما أشار إلى ضرورة “ضبط الفلتان الأمني” و”رفع الغطاء عن أي مُرتكب” فهذه العبارات تحمل طابعًا رمزيًا قد لا يُترجم بسهولة إلى إجراءات فعلية دون دعم تشريعي وتنفيذي قوي.
لقد مثل اللقاء في دارة الرئيس نجيب ميقاتي ومن خلال إعلان طرابلس تحركًا سياسيًا واستراتيجيًا هادفًا لإعادة ضبط الحسابات في ظل التداعيات . ويمكن القول بأن هذا اللقاء وإعلان طرابلس ليسا مجرد تجمع سياسي عادي، بل هما إشارة واضحة إلى عزم القيادة اللبنانية على مواجهة التحديات الراهنة وتحويل الأزمات إلى فرص إصلاحية حقيقية، من أجل لبنان موحد وقادر على استيعاب تداعيات الأزمات الخارجية دون التفريط في مبادئه الوطنية.

شاهد أيضاً

الحل بإصلاح النظام السياسي وتطبيق مبدأ الشفافية والمساءلة

من المعروف أن الحصص الطائفية والسياسية والحزبية تؤثر سلبا”في أداء الدولة والحكومة في مختلف المجالات …