عندما يكتب الكبار، لا تكون كلماتهم مجرد حبر على ورق، بل بصيرة تستشرف المستقبل، وتنبّه الغافلين قبل فوات الأوان. وهذا ما فعله الشاعر الكبير أنيس الفغالي في قصيدته هذه، التي كتبها في ثمانينيات القرن الماضي، لكنها تبدو اليوم وكأنها ولدت من رحم واقعنا الحاضر.
كم هو محزن أن نقرأ قصيدةً قيلت منذ عقود، فنجدها تصف حاضرنا بكل دقة، كأنها مرآة تعكس انحدارنا المستمر، وكأننا أمة تأبى أن تتعلم من أخطائها. نفس الجهل، نفس الفتن، نفس الفساد، نفس التعصب والطائفية، وكأن الزمن توقف، أو كأننا بتنا أسرى لدائرة مفرغة لا مهرب منها.
لقد كان أنيس الفغالي شاعرًا سابقًا لعصره، يكتب بجرأة لا تعرف المجاملة، ويصرخ في وجه الزيف والرياء، كاشفًا بحدّة كلماته الأمراض التي تفتك بالمجتمع. واليوم، نعيد نشر كلماته، لا لأنها من التراث، بل لأنها للأسف ما زالت تصف واقعًا لم يتغير.
وكما أجد نفسي اليوم، أنا الدكتور جيلبير المجبر، أكتب هذه السطور بكثيرٍ من الألم والحسرة، وأتساءل: هل كُتب علينا أن نبقى أسرى لهذا الواقع المتعفن؟ هل سنظل ندور في نفس الدائرة من الجهل والتبعية والانقسام، أم أننا سنستيقظ يومًا ونكسر هذه القيود؟
قصيدة أنيس الفغالي – من ثمانينيات القرن الماضي
نحن بالشرق يا عالم مطية
فينا الوعي نوع من الغباوة
وسلامنا تدرّج للمهاوي
وجسورنا معابر للعداوي
كفانا نضل جرثومة مساوي
وكفانا نضل نحكي بالتساوي
وكفانا نمرّغ الدين السماوي
وكفانا الدجل نعتبرو ذكاوي
وكفانا تفرقة وجهل وعماوي
عصر بيحكم على القن واوي
بدنا نحط حد للهبلادي
إذا بتريد يا شاعر نداوي
بتلزمنا المبايض والمكاوي
وبطل من كل قلب ورب ناوي
بطل ما يكون حب الذات هاوي
والو كل المشاوي والحلاوي
لأغلب هالعِلل بدنا مداوي
وطقم حكّام أزرار وعرّاوي
وإذا كان الحزم والعزم حاوي
ما بينعد حكمو حكم ساوي
ويهدّم ناطحات الطائفية
لمكر الغرب جلّاب البلية
وعنا للتعصب قابلية
وتألّفنا شقاق وسوء نية
ولكل مؤامرات أجنبية
وأنانياتنا.. علّة خفية
ونعطي واحد من الخمسية
بقضايانا السخيفة الدنيوية
وكفى نعدّ الثقافة عبقرية
ورجوع لقبل عصر الجاهلية
وبيوكل عا دَلّ السمن حيّة
ونخلص من قضية هالقضية
عللنا.. بعمق تفكير ورؤية
واطبّا ما تحكّم عالهوية
يمشي الذيب والنعجة سوية
ولا يؤسس شراكة عائلية
وفتافيت الموائد للرعية
لبناني وباسمو الصيدلية
وبطانة صالحة مش مهترية
وناوي عا بناء دولة قوية
حتى مرسة الأعداء تلعب
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها
صرخة أنيس الفغالي لم تكن مجرد شعر، بل كانت تحذيرًا، جرس إنذار لمن أراد أن يفقه. لكن، ويا للأسف، يبدو أن الآذان التي سمعته كانت صماء، والعيون التي قرأته كانت عمياء.
كم من العقود نحتاج لنفهم أن الأوطان لا تُبنى بالحقد والأنانية، بل بالعقل والوحدة؟ إن لم نستفق اليوم، فمتى؟ إن لم نضع حدًا لهذه المهزلة المستمرة، فكم من الزمن سيضيع قبل أن ندرك أننا بأنفسنا ندفع أوطاننا إلى الهاوية؟
تحيةً لهذا الشاعر الذي لم يكتب ليُعجب الناس، بل كتب ليوقظهم… لكنه، ويا للأسف، خاطب قومًا في آذانهم وقرٌ وفي عيونهم غشاوة!
بقلم: الدكتور جيلبير المجبر