العلامة الشيخ علي الخطيب: سماء الجزيرة العربيّة تلفّها سُحُب الجاهليّة السوداء

أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ومولانا ابي القاسم محمد ابن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أُبارك لكم ذكرى المبعث النبوي الشريف الذي أضاء الله به الكون ونشر به الهدى وازاح به العمى والضلالة (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفًا الحالة العامة للأمّة التي بُعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إليها: “أرسله على حين فترة من الرُسُل، وطول هجعة من الأمم واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وأياسٍ من ثمرها…》
أرسله على حين فترة من الرسل في ذلك الوقت الذي كانت فيه الدنيا غارقة في ظلام الجهل، وسماء الجزيرة العربيّة تلفّها سُحُب الجاهليّة السوداء، وفي ذلك المحيط الصاخب بالضلال والانحراف والحروب الدامية، والنهب والسلب، ووأد البنات، وقتل الأولاد، وموت الضمير وانحلال الأخلاق.
في مثل هذا الزمن بالذات أطلّت شمس السعادة، وأضاءت محيط الجزيرة العربيّة، وأشرقت الدنيا بأنوار الرحمة الإلهيّة، فكانت البعثة النبويّة الشريفة التي تجسّدت فيها كلّ معاني رحمة الله تعالى بعباده.

فقد بعث الله سبحانه وتعالى نبيّه الأكرم محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) رحمةَ للعالمين جميعاً، وليس لأهل مكّة، أو أهل الجزيرة العربيّة أو المسلمين وذلك بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

وقد خصّه الله تبارك وتعالى بهذه الكرامة ليكون التجسيد الحقيقيّ لهذه الرحمة التي تظهر بأشكال وعناوين مختلفة، ويكفي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) منها أنّه كان عنوان الأمان لأهل الأرض من عذاب الله تعالى عند أيّ معصية وذنبٍ يرتكبونه ويكون مستوجبًا للقضاء على النّاس كما حصل في تاريخ الأمم التي عصت الأنبياء والرُسُل من أمثال عادٍ وثمود وغيرهم.

يقول الإمام عليّ (عليه السلام) مبيّنًا هذه المنقبة: “كان في الأرض أمانان من عذاب الله وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار؛ ثمّ قال تعالى: )وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(.

وفي الروايات المتواترة أنّ الله سبحانه وتعالى رفع عذاب الاستئصال عن أمّة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ببركة وجوده، بينما كانت الأمم السابقة مهدّدة ومعذَّبة بهذا العذاب حين تغرق في الفساد وتتبدل لديها المفاهيم وتصم الآذان عن سماع الحق ويعم الظلم ويغيب العدل وتتبدل الموازين ويحتكم إلى القوة المادية وتتجاهل القيم الاخلاقية والانسانية، ويسود الجهل
وتتبع الاهواء
﴿لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ﴾.
لقد كانت مهمة الأنبياء رفع الجهل ونشر الوعي والمعرفة والارتقاء بمدارك البشرية ومحاربة الأوهام والاساطير والخرافات ورافقت هذه التجربة الامم في كل مراحلها التاريخية وكانت كلما ابتعدت عن الاخذ بهدى النبوة واقتربت من السقوط التام في الهاوية وعصت انبياءها عوقبت بالهلاك والافناء كما حصل مع قوم عاد وثمود ولوط ونوح وحذر امة محمد من ان ينزل بهم ما نزل بالامم من المثلات بسوء افعالهم وذميم اعمالهم ودعاهم ان يتذكروا في الخير والشر احوالهم وان يكونوا امثالهم كما يفهم من مقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته: واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم
مما يفهم ان امة محمد ليست بمنأى عن العذاب الدنيوي بمعنى الاستئصال الذي نزل بالأمم من قبلهم وأنهم غير مستثنون منه فإن تحذيره لهم ودعوته س إلى الاعتبار ممن مضى من الأمم ان يصيبهم ما اصابهم ان سلكوا مسالكهم دليل على أنه واقع بهم ما وقع عليهم، وان الأحاديث حول ان الله تعالى استثناهم من الاستئصال كرامة لنبيه غير صحيح على انه يمكن حصره بحضور النبي ص والاستغفار وهو مفاد الآية الشريفة: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
وقول أمير المؤمنين المستند إليها: “كان في الأرض أمانان من عذاب الله وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار.
اما الاستثنائية الاول فمطلق واما الثاني فقيد بالاستغفار، فما لم يستغفروا ويتوبوا ويؤبوا إلى الله فهم ليسوا بمنأى من العقاب بما فيه الاستئصال الا ان يقال الا الاستئصال لِما دل على بقائها من انها آخر الأمم التي يصلحها قائم آل محمد (عج).
كما ربما يتمسك بأن كون البعثة الشريفة رحمة للعالمين تتنافى مع الاستئصال ولكن الآية لا تدل على ذلك فكل الانبياء رحمة لاقوامهم ولم يمنع ذلك من عقوبة الاستئصال لهم غاية الفرق مع البعثة النبوية الشريفة ان الرحمة فيها أوسع فهي للعالمين لان رسالة النبي ليست منحصرة بقومه فهي عامة للبشرية وهي اكملها وآخرها على خلاف النبوات الاخرى التي هي اما محصورة من حيث المرسل إليهم واما انها ليست اكمل الرسالات،
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾.
فالرسالة أشمل وهي اكمل لان الكتاب مهيمن على بقية الكتب السماوية الأخرى.
لقد تطورت تجارب البشرية ماديا على مدى مراحلها التاريخية وكانت تحتاج إلى جانب ذلك إلى تحصينها بالوعي المعنوي بما يتناسب مع ذلك التطور فالقاعدة القرآنية انه كلما زاد التطور المادي لدى فئة من الناس شعرت أكثر بالغنى والاقتدار وكلما شعرت بالاقتدار جنحت عن الاعتدال نحو الطغيان (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) فهو بحاجة إلى كوابح لهذه الغريزة لتحفظ لها توازنها وهي مهمة الدين ان يذكِّر الإنسان بحجمه الواقعي وبموقعه في هذا الكون وبوظيفته التي خلق من اجلها ومن أجل ذلك كانت البعثة النبوية متناسبة مع التطور البشري للمرحلة الأخيرة من عمر الزمن ومتكافئة في التعامل معها وابقائها في وضع التوازن والاعتدال بين التطور المادي والسلوك الإنساني للحؤول دون الطغيان المادي وانهيار القيم والاخلاق الذي عنده رسول الاخلاق والقيم ص الذي عرَّف له الله تعالى وظيفته بقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق).
أيها الاخوة، ان التطور المادي إن خلا من الاخلاق لا يعدو معه الإنسان أن يكون سوى مخلوق متوحش والحياة سوى غابة للتصارع بين الوحوش ينتفي معها الاحساس بالاستقرار والدور المتميز المتناسب مع المؤهلات التي زوده الباري بها وتصبح عديمة الوظيفة والفائدة ويغدو الإنسان وحشا متطورا والعقل مجرد ألة تخدم الغرائز والاهواء تسف به إلى اسفل الدرجات،
إنّ الإنسان ليس إلا بما يحمله من قيم فإن افتقدها افتقد قيمته ودوره في الحياة فإن الحياة ليست سوى هذه القيم .

لقد كانت الرسالات السماوية تقوم دائما بهذا الدور وهو بناء الإنسان وتنظر نظرة دونية للقيم المادية وعندما عبًر عنها من بعض وجوهها علي (ع) كالبطن في قوله: “من كان همه بطنه كانت قيمته ما يخرج منها” لم يقصد سوى هذا المعنى بأن يعطي القيمة للكرامة والعدالة والتضحية والكرم والشجاعة والسخاء والعفو والحرية التي يسمو بها في مقابل الامتهان والظلم والجبن والعبودية والحرص والبخل التي ينحدر معها.
أيها الاخوة، إنّ التقدم المادي الهائل الذي يتمتع اليوم عالم الغرب لما لم يصاحبه القيم والاخلاق غدا وحشا يفترس ولا يشبع دون أن يرف له جفن أو تدمع له عين ولا يتورع عن ارتكاب أي جناية مهما بلغت بل على استعداد ليرتكب أفظع الجرائم طالما تتحقق له أهدافه، كما آلت اليه أمورنا اليوم في غزة حيث يعطل القانون الدولي مع الجرائم الشنيعة والاهوال الفظيعة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة أمام سمع وبصر بل بمعونة وحماية وتوجيه الغرب المنافق دون أن يرف له جفن او تدمع له عين، فما الذي يدفع الشعب الفلسطيني إلى دفع هذه الأثمان الباهظة لولا هذا الظلم الفادح الذي يتعرض له والشعور بفيض الكرامة التي تدفعه الى الشهادة والاستبسال والتضحية بابنائه ونسائه وشبابه في مواجهة غير متكافئة ماديا مع الظالمين من طواغيت العصر وجبابرته وتزيده شعورا بفائض القوة المعنوية وهو على قناعة بأن النصر والغلبة مكتوب له حتماً.
إنّ الغرب لم يسقط لأن السقوط يكون لمن موقعه في الأعلى أما الغرب فقد كان بمبادئه وفلسفاته التي دعته لارتكاب هذه المظالم فقد كان منذ أن تبناها ساقطاً واما الاكثر سقوطاً فهم الذين تولوه ومن يتولهم فهو منهم أولئك الذي لانسمع منهم إدانة لهذه الجرائم بل يدينون المظلوم ويحرضون عليه ويتهمونه، وكأن الدفاع عن الأرض والسيادة في مقابل المعتدي والمحتل خيانة لا من يتخلى عن السيادة والكرامة الوطنية ويتعامل مع العدو.
لماذا تدينون المقاومة وتسكتون عن المحتل والمعتدي وبعضهم كل يوم هم في شأن يوماً يمتدحون وفي اليوم التالي ينقلبون، هل يتغير الموقف تبعاً لتهديد أو لاغراء؟ قليلاً من الثبات والاتزان والحكمة، أيها المترددون ما هكذا تورد يا سعد الإبل ما لكم، (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ).
إنّني انصح هؤلاء بأن يتخلوا عن خلفياتهم الطائفية التي تمنعهم من رؤية الأمور على غير حقيقتها وان ينظروا إليها من خلفية وطنية فإن هذا كفيل برؤية الأمور على واقعها وحقيقتها كما أن عليهم أن يتذكروا أن المقاومة لم يكن دفاعها عن الوطن إلا من منظور وطني وأنتم تعلمون حق العلم بذلك وأثبتت انها أكثر وعياً والتزاماً بالوطنية وبُعداً عن الطائفية.
حكمنا فكان العدل منا سجية
حكمتم فسالت من دمانا الانهر
ايها الأخوة، نحن مدعوون للتضامن مع أنفسنا ومع أهلنا مع أهالي الشهداء الذين يستحقون منا الكثير هؤلاء الذين ضحوا بأعزّ ما يملكون وهم ابناؤهم ، أليس يقتضي الواجب ان نحترم تضحياتهم بدل ان نوجعهم بكلمات تسيء لتضحيات أبنائهم الذين استشهدوا في سبيل الله والوطن ببيانات تفوح منها رائحة الطائفية وأبعد ما تكون عن الوطنية؟.
كما أن الواجب بل أقله هو العناية بأبنائنا الذين نزلوا من قراهم فما لنا لا نسمع لهم حسيساً ولا همساً، أين أجهزة الدولة؟ وأين الحكومة؟ وما هي خططها؟ وأين المنظمات الدولية والإنسانية؟ أليس هذا من صلب واجباتها الدولة التي تدعي الإفلاس؟ لماذا تقفل أبواب المؤسسات في الدولة كالدوائر العقارية النافعة وتسجيل السيارات؟ أين المؤسسات الدولية من استخدام العدو للقنابل الفسفورية؟.
أعود لأكرر الادانة للعدوان الأمريكي على دولة العراق الشقيق واستهداف الحشد الشعبي وقيادته حماية للمعتدي الصهيوني، ونتقدم من دولة العراق وشعبه وحكومته والحشد الشعبي وسوريا العزيزة بأحرّ التعازي ونسأل الله الرحمة للشهداء والشتاء العاجل للجرحى وأن يمنّ تعالى بالنصر والعزة على المقاومة وشعوبنا الابية

شاهد أيضاً

خلال متابعة أوضاع النازحين في سرايا طرابلس